تطوان44: رضوان الغزواني
تعبير متداول في الشارع المغربي، يعكس حالة من الانقسام غير المسبوق في الرأي العام، نتيجة التداخل العميق بين المحلي والخارجي، وبين الانتماء الوطني والصراعات الإيديولوجية العابرة للحدود.لم يعد المجتمع المغربي بمنأى عن التجاذبات الحادة التي تطبع المشهد السياسي والثقافي في الشرق الأوسط، بل أصبح هو الآخر يعيش على وقع استقطابات حادة، تجاوزت حدود النقاش، لتصل إلى الانفعال والتوتر المجتمعي. فالمجتمع المغربي، وإن كان محافظًا في جذوره بنسبة كبيرة، إلا أن اختراقًا فكريا وثقافيا حدث، ليس عبر السياسات الرسمية أو المؤسسات، بل من حيث لم يكن متوقعا من قلب الشارع.
وسائل الإعلام الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي، لعبت دورا محوريا في هذا التحول، حيث أصبحت منصات لتغذية العنف الرمزي، وبث الانقسامات، والتأثير على السلوك والعادات والتقاليد.
والأخطر من ذلك، أن هذا التأثير لم يقتصر على الجانب النظري، بل ساهم بشكل واضح في تفجير الخلافات داخل المجتمع المغربي، خاصة بين فئاته الطبقية والثقافية، وسط تراجع لخطاب جامع يعزز الهوية الوطنية هذه التحولات تطرح تساؤلات ملحة:
هل نحن أمام إعادة تشكيل للوعي المغربي؟
وإلى أي حد يمكن الحديث عن تآكل الهوية لصالح أجنداتخارجية؟
وهل ما يحدث اليوم هو مجرد تعبير عن تضامن خارجي، أم أزمة داخلية عميقة في تمثّل الذات والانتماء؟
لا يخفى على أحد أن منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة “إكس” (تويتر سابقًا)، أصبحت ساحة مفتوحة لصراعات فكرية وهوياتية حادة. وقد كنت، شخصيا، جزءًا من هذه “اللعبة”، حيث اعتدت الدخول في سجالات ومنشورات غالبًا ما كانت ترد على حسابات جزائرية أو أخرى مغربية تُعبّر عن دعمها للكيان الصهيوني، بشكل مباشر أو غير مباشر.ومع الوقت، أدركت أن هذه الممارسة، رغم نبل نواياها في البداية، تحولت إلى حرب افتراضية لا أخلاقية، تستنزف الطاقات، وتُغذي الكراهية، دون أن تُنتج وعيا حقيقيا أو تأثيرا إيجابيًا. بعد توقفي عن هذه المواجهات، بدأت أتلقى رسائل غريبة عبر البريد الإلكتروني، بعضها يحمل تهديدات مبطنة، ما زاد شكوكي حول مدى اختراق هذه المنصات، ومدى صحة المعلومات المتداولة فيها، بل وحتى الجهات التي تغذيها.
لقد تعلمنا، نحن أبناء هذا الوطن، أن نناضل من منطلق الود، والمروءة، والكرامة. تعلمنا أن نقف إلى جانب كل مظلوم ومحروم في هذا العالم، دون أن نتخلى عن نضالنا الداخلي من أجل إصلاح مجتمعنا. نحن لسنا أبناء نتنياهو، ولا خامنئي، ولا ترامب. نحن أبناء محمد الخامس، الذي دافع عن استقلال الجزائر في الأمم المتحدة، الدي دافع عن اليهود المظطهدون خلال الحرب العالمية الثانية حينما رفض تسليمهم لفرنسا بقولة شهيرة “لا يوجد يهود في المغرب، هناك مغاربة فقط“. هذا الموقف التاريخي الإنساني حمى الآلاف من التهجير والموت، وظل محفورًا في الذاكرة الجماعية لليهود المغاربة.
نحن نناضل من أجل تازة، وغزة، وبورما، وجنوب السودان …نناضل من أجل الإنسان، حيثما كان. لكننا نرفض أن يتحول هذا النضال إلى أداة للانقسام، أو وسيلة لنشر الحقد بين أبناء الوطن الواحد.
ليست كل أشكال التأثير تأتي عبر صراخ السياسة أو أضواء الإعلام، فبعضها يتسلّل بهدوء إلى تفاصيل حياتنا اليومية، من دون أن ننتبه. لقد أصبح واضحا أن ثقافة الكيان الإسرائيلي أو بالأحرى، نمط تفكيره وسلوكياته وجدت طريقها إلى بعض جوانب الحياة اليومية في المجتمع المغربي، سواء من خلال لغة الخطاب، أو طريقة التفاعل مع القضايا، أو حتى في التحول نحو الفردانية، والنزعة الاستهلاكية، والتطبيع مع العنف الرمزي في النقاشات.
ظهر هذا التأثير في تطبيع بعض المغاربة، خاصة فئة الشباب، مع مفاهيم مثل “التفوق الذاتي بأي ثمن”، أو “الواقعية السياسية المفرطة”، بل وحتى تبرير الظلم إن كان يخدم المصلحة الشخصية أو القومية.
في بعض النقاشات على المنصات الرقمية، يلاحظ بوضوح كيف يتم تبني مصطلحات وتقنيات خطاب تشبه ما تبثّه جهات إسرائيلية تبرير القمع، شيطنة الآخر، اختزال القضايا الإنسانية في أرقام وسياسات.لا يعني هذا اتهاما بل تنبيه إلى أن الثقافة ليست محايدة، وأن الاستهلاك غير الواعي للمحتوى القادم من جهات لها أجندات واضحة، قد يعيد تشكيل الوعي المجتمعي ببطء، حتى يصبح اللامبالاة والأنانية والتطبيع مع الظلم جزءا من الحياة اليومية العادية.إن مقاومة هذا التأثير لا تكون عبر الشعارات، بل ببناء وعي نقدي حقيقي، وتعزيز قيم المجتمع الأصيلة مثل التضامن، العدل، والنضال الأخلاقي الذي لا يساوم على كرامة الإنسان، أيّا كان انتماؤه أو موطنه.
في ظل هده التغيرات المتسارعة التي يشهدها المغرب على المستويات السياسية والثقافية والرقمية، يبرز غياب خطاب وطني جامع كواحد من أبرز أسباب هذا الارتباك المجتمعي. فبين دعوات الانفتاح والاندماج في السوق العالمية، وتيارات الدفاع عن الخصوصية الثقافية والروحية، نجد ان المواطن المغربي ضاع وسط رسائل متناقضة لا تقدم له بوصلة واضحة. لم يعد هناك خطاب رسمي أو شعبي يقدّم رؤية متوازنة تُعزز الانفتاح الذكي المدروس، دون أن تفرط في مقومات الهوية المغربية، التي تتكون من روافد متعددة ولعل ابرزها الأمازيغية، والعربية، والإسلامية، والإفريقية، والأندلسية، والحسانية.
بدلا من ذلك، ترك المجال لخطابات هامشية ومتطرفة تتأرجح بين الغلو في الانغلاق والذوبان الكلي في ثقافات مستوردة، مما أدى إلى حالة من الضياع الهوياتي، خاصة في أوساط الشباب، الذين يجدون أنفسهم عالقين بين التقاليد الثقيلة من جهة، والعالم الرقمي السائل من جهة أخرى. في ظل هذا الفراغ، برزت منصات التواصل الاجتماعي كبديل عن المؤسسات الثقافية الرسمية، لكن دون مرجعية أخلاقية أو فكرية واضحة، مما أدى إلى تصدر أصوات هجومية أو هدامة، تغذي الانقسام، بدل أن تبني الوعي.
إن المغرب، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى خطاب وطني جديد، يعيد الثقة في الذات الجماعية، ويعيد الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة، لا كوسيلة للانعزال، بل كأساس للانفتاح الواعي والمتوازن.
رضوان الغزاوي — باحث في ماستر السياسة الدولية والدبلوماسية والرقمنة