تطوان44: محمد المسيح
تعد الهيمنة من المواضيع الرئيسية في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية، ويمكن القول إن الهيمنة مفهوم غريزي لدى الدول، وهذا المفهوم ليس وليد اللحظة وإنما هو سيرورة لمفهومي السيطرة والنفوذ (العسكري والاقتصادي والثقافي) والذي عرف تطورًا عبر الحضارات والإمبراطوريات والدول منذ قدم التاريخ.
فإذا قمنا بتتبع السياق التاريخي للهيمنة، نجد في الحضارات القديمة مثل البابلية والفارسية والرومانية، فرضت هيمنتها من خلال القوة العسكرية لبسط هيمنتها على الشعوب والأراضي الشاسعة، بينما الحضارة الإسلامية في عهد الأمويين والعباسيين سعت إلى الهيمنة الدينية والثقافية بنشر الإسلام واللغة العربية. وفي الحقبة الاستعمارية بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، مارست كل من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا والبرتغال هيمنة عسكرية بقوة السلاح واقتصادية باستغلال الموارد الطبيعية للدول المستعمرة.
لكن بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، شكل حدثًا مفصليًا في تاريخ البشرية، بحيث وصلت القوى الكبرى إلى وعي جماعي بحجم تكلفة السعي وراء الهيمنة في بُعده الإنساني والاقتصادي، فتم بناء نظام من خلال منظمة الأمم المتحدة بمنطق توازن القوى، يحد من الرغبة الجامحة للدول للهيمنة، والفيتو ما هو إلا أداة من أدوات خلق التوازن لمنع دولة أو مجموعة من الدول من فرض هيمنة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية على باقي دول العالم، تفاديًا لحرب عالمية.
في القرن الواحد والعشرين، نلاحظ تحولات جيوستراتيجية، أهمها صعود الصين كقوة اقتصادية مؤثرة في العالم، وإذا قمنا بتحليل سطحي، سنجد أن الصين تستعمل الاقتصاد كقوة ناعمة لتعزيز مكانتها دوليًا، وغير مهتمة بالصراعات الجيوسياسية والسباق نحو التسلح، وتقتصر على ما هو اقتصادي وتجاري فقط.
لكن إذا قمنا بتحليل العقل الصيني الذي يطبق استراتيجية “الذئب الصبور” بخطوات ثابتة نحو تفكيك النظام العالمي الحالي، وبالموازاة بناء نظام عالمي جديد باستعمال الاقتصاد كقوة ناعمة، في أفق هيمنة سياسية وعسكرية كهدف استراتيجي على المدى الطويل.
فكرة الهيمنة الصينية تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد مع مشروع “طريق الحرير” الذي كان الهدف منه ربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبعد ألفي عام، تقوم الصين بتجريب ما هو مجرّب بمسمى آخر “الحزام والطريق”، بآليات وأدوات أخرى وبعمق استراتيجي مدروس ومخطط له، وبهامش خطأ صفر.
هذا المشروع أُعلن عنه من طرف الرئيس الصيني شي جين بينغ سنة 2013، عن إنشاء حزام بري وطريق بحري يشمل أكثر من 150 دولة من آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، الهدف منه خلق التعددية القطبية والتكامل الاقتصادي العالمي، لكن في طياته تكون الصين مركزًا له، وأعضاؤه تابعين لها.
تُنفذ هذا المشروع باستثمارات ضخمة ببناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ، باستخدام “دبلوماسية الديون” بدون شروط وبشكل سخي، والتي تؤدي إلى فشل الدول في سداد الديون، مثل سريلانكا التي اضطرت إلى تأجير الميناء لمدة 99 سنة للصين، وما تبعه من نقاش حول فقدان السيادة للدولة، ونفس الشيء بالنسبة لباكستان التي استعانت بصندوق النقد الدولي خوفًا من فقدان السيطرة على بعض أصولها في المشروع. وبالتالي، فسياسة القروض تؤدي بطريقة غير مباشرة إلى تبعية اقتصادية وسياسية فيما بعد، يتيح لها تشكيل تكتل اقتصادي تكون هي المستفيد الأول منه.
إضعاف الدولار الأمريكي يتم من خلال مجموعة “البريكس” التي تعرف تطورًا متسارعًا باعتماد العملات الوطنية في المعاملات التجارية، وعلى سبيل المثال، الصين وروسيا أكثر من %70 من معاملاتهما تتم بالروبل واليوان، بالإضافة إلى مشروع “اليوان الإلكتروني” الذي أطلقته الصين كأداة استراتيجية لمنافسة وهيمنة الدولار.
ما يعزز هيمنة الصين هو إنشاء مؤسسات موازية لمؤسسات ومنظمات دولية، مثل “البنك الآسيوي للاستثمار” الذي أُسس سنة 2015 بمبادرة من الصين، ويضم أزيد من 100 دولة من بينهم دول أوروبية كفرنسا وإيطاليا، كبديل للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقبلها “منظمة شنغهاي للتعاون” التي توازي حلف الناتو على المستوى العسكري، ومجموعة السبع الكبرى ومجموعة العشرين على المستوى الاقتصادي والسياسي. ومن أجل تقزيم دور منظمة التجارة العالمية، بخلق كيان يوازي مهامها، تم تأسيس “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” التي تعتبر أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم.
تبقى الولايات المتحدة الأمريكية المتضرر الرئيسي من الطموح الصيني، وتعيش مرحلة صعبة ودقيقة في تاريخها، وتكرر تجربة الحرب الباردة، لكن بموازين قوى مختلة لصالح الصين. موضوع هذا الصراع هو الحد من الهيمنة الاقتصادية للصين والسباق نحو التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والرئيس دونالد ترامب يحاول إعادة التوازن بفرض عقوبات جمركية لها أثر آني، لكن على المدى البعيد لن تصمد الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تعي هذا جيدًا. لكن الرئيس الأمريكي لديه تصور واضح حول إيقاف هذا المد الاقتصادي الصيني، ولهذا طلب ضم كندا وشراء غرينلاند، وإعادة فرض السيطرة على قناة بنما. هذه محددات استراتيجية لوقف الزحف الصيني، بالإضافة إلى التفاوض حول إقناع الدول بنموذجه الاقتصادي، وهو ما يفسر التقارب الأمريكي الروسي في قضية الحرب الأوكرانية، وسخاء الجانب الأمريكي في الموضوع، ونفس الشيء مع إيران، وتودده للهند، وبالإكراه للاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات جمركية، والابتزاز أحيانًا بالأمن الذي تعيشه أوروبا بفضل الولايات المتحدة الأمريكية.
في ظل هذا المخاض، لا أستغرب في المستقبل تحالفًا استراتيجيًا بين روسيا والهند لمواجهة الهيمنة الصينية، لأنه رغم الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، لكنها بشيء من الحذر من الجانب الروسي الذي أصبح موردًا طبيعيًا للصين فقط، والهند تخاف من تحويلها إلى سوق استهلاكية.
بقلم محمد مسيح طالب باحث بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية.
بقلم محمد المسيح
طالب بمسلك الماستر “السياسات الدولية و الدبلوماسية و الرقمنة بكليّة الحقوق بتطوان